Translate

السبت، أبريل 17، 2010

خطب الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة في أريحا فلسطين في 3 مارس آذار 1965 و دعا الفلسطينيين إلى قبول التقسيم و الحل غير الكامل كخطوة أولى و إقامة الدولة الفلسطينية قبل الحسرة و الندامة.



كثيرون مِن زعماء ومسؤوليين عرباً ودوليين زاروا مخيم الدهيشة قرب بيت لحم، ولكنّ الزيارة التي بقى صداها يتردد حتى الآن، هي زيارة الحبيب بورقيبة قبل عامين مِن الهزيمة، وكذلك خطابه الشهير في مدينة أريحا بعد زيارته للمخيم، والذي أثار عليه غضباً عارماً مِن الرأي العام الفلسطيني والعربي.

بالنسبة لسكان المخيم، بدأت القصة عندما استدعى مدير مكتب الأونروا( وكالة الغوث) أبا عزمي، وأبلغه بأنه تم إختيار منزله ليزوره المجاهد الأكبر، لأنه منزل على قدر مقبول نسبياً من الترتيب بمقاييس المخيم، فالمنزل غرفة متواضعة مِن الغرف التي بنتها الأونروا للاجئين، وصدف أن حولها حوشاً(فناء) وكانت بهذه الصفة أفضل مِن غيرها.




في اليوم الموعود نزل سكان المخيم إلى شارع القدس-الخليل، ليرحبوا ببطل إستقلال بلد شقيق، يرفعون اليافطات والصور، يصنعون إستقبالاً حافلاً، زاد مِن ثرائه تشجيع الحكومة له، لأن الضيف هو ضيفها الرسمي، فتغاضت عن مشاركة النشطاء مِن الشيوعيين، والبعثيين، والأخوان ومؤيدي عبد الناصر، بل ربّما كانت سعيدة بهذه المشاركة، لأن هؤلاء حازوا خبرة كبيرة في تنظيم الحشود الجماهيرية، كالتظاهرات التي كانوا يخرجون بها مِن المخيم إلى بيت لحم، منتهزين أيّة مناسبة وطنية أو قومية ليفعلوا ذلك، قاطعين مسافة طويلة في شارع القدس-الخليل قبل أن يهدّهم التعب.
ناس المخيم المبتهجون الذين لم يعرفوا تحديداً لم هم مبتهجون، إنتقلت بهجتهم حتى قبل الزيارة إلى منزل أبي عزمي، ومنذ أن علموا بأن بورقيبة سيزور المخيم، وسيأتي إلى منزل أبي عزمي، قَدّم كل منهم أفضل ما عنده مِن قطع أثاث ليليق المنزل بالضيف الكبير. لم يقتصر الأمر على الكراسي، والبراويز، والأواني، والسجاد، وفناجين القهوة وكاسات الشاي، لكنّه امتد إلى أبي عزمي نفسه الذي إرتدى ما أُعتبره لائقاً، بعد أن دبروا له زياً جديداً شمل حتى الحطة والعقال، وتجمّلت زوجته بثوبٍ جديد تتدلى مِن عنقها القلائد الذهبية، والأساور طوقت معصميها، ولم تتسع أصابع يديها لكل الخواتم التي وصلتها، وكله بفضل ما قدمته النسوة مِن محبات وصديقات وقريبات وجارات وحَشريات.
وفي ما بعد أصبح هناك اعتقاد لدى سكان المخيم، بأن ما وجده بورقيبة في منزل أبي عزمي، كان سبباً في رؤيته التي عبرّ عنها بإنتهاج سياسة واقعية تجاه إسرائيل، كاسراً بذلك مُبكراً إحدى المحرمات العربية في ذلك الوقت، فبورقيبة وفقا لهذا الاعتقاد تكَوّنت لديه فكرة مغلوط هي أن اللاجئين يعيشون في ظروفِ معيشية جيدة، لا يعيشها غالبية التونسيين المتمتعين بالاستقلال، وما دام هذا حالهم فليتصالحوا مع اليهود.
سأل بورقيبة مضيفه عن عمله فأجابه أبو عزمي بأنه يشتغل حجّاراً ويُحصّل أجرته يوماً بيوم، وإن لم يعمل فلا أجر له، فاستغرب فخامة الرئيس كيف لعاملٍ في الظروف التي شرحها مضيفه، إمتلاك كل هذا الأثاث، ويستطيع أيضاً تزيين امرأته بكل هذا الذهب.
طلب بورقيبة كما روى أبو عزمي قصة الزيارة مرارا، مضطراً، أو رغبة منه، في تصحيح ما حدث، بعد أن أصبح كل مُحب للحكايات يتنطح لرواية قصة بورقيبة مع مخيم الدهيشة، مضيفاً لها البهارات اللازمة، أن يبني غرفة إضافية إلى جانب الغرفة التي يعيش بها، ولكن أبا عزمي أجابه بحسم: "أعيش هنا مؤقتاً،..أريد العودة إلى قريتي التي هُجرت منها ولوّ عشت في العراء".
يتذكر أبو عزمي دائما أن ضيفه كان ودوداً، ويطلق نكاتاً، وطرح مسألة بدت غريبة على أبي عزمي وقتذاك، وهي إمكانية العيش بجانب إسرائيل وسأله إذا كان يوافق على ذلك. 
أبو عزمي الذي يؤمن بمجموعة مِن الحكم مثل: "صن لسانك عند مخالفة الدول" و"الحيطان لها آذان" و"لسانك حصانك..."، بدا مرتبكاً للوهلة الأولى، ولم يعرف أيّة إجابة سيختار وتكون محل رضى السلطات ، خصوصا أنها لن تحتاج لحيطان تسمع، لأن مندوبيها رفيعي المستوى حاضرون مع بورقيبة، ولكنه قال بعفوية بأنّه يريد أن يترك هذا المخيم، ويمحو عن نفسه صفة لاجيء، ولا يفكر سوى بالعودة إلى قريته، ولنّ يتحمله ذلك سوى نصف ساعة بالسيارة، ولكنّها الآن تبدو كأنها في قارة أخرى بعد أن أصبحت ضمن دولة عدوة هي إسرائيل.
في ما بعد لم يكف الناس عنّ التندر على ما حصل بين أبي عزمي العامل "الارستقراطي" وضيفه، ولكنّ ما إستمر طويلاً مِن رائحة تلك الزيارة، هي تقبيل بورقيبة لمنى المفتي الطالبة في المدرسة الإعدادية، المشهورة بجمالها الأسمر، والتي أُنيط بها تقديم باقة الزهور للضيف لدى وصوله المخيم.
أثرت هذه القبلة لأسبابٍ قد لا يكون لها  تفسير مقنع، في وجدان الشباب، وطلاب مدرسة الذكور خصوصاً، الذين ظلوا لفترة طويلة بعد الزيارة ينتظرون خروج مُنى مِن المدرسة، أو مرورها ليرّمونها بكلمة واحدة: "أبو رقيبة"، ثم يضحكون أو يتهامسون، تدغدغهم لذة سرية لم يتمكنّوا مِن معرفة كنهها، وأصبح اسم الزعيم التونسي كما يلفظه ناس المخيم (أبو رقيبة)، كلمة سرّ يتداولها الشبان تورية لمنى التي خلبت لب الطلبة، بساقيها الجميلتين، التي تكشف عنها تنورتها، ودبيبهما المتناسق على الأرض، بفعل مشيتها الواثقة، وذلك قبل زيارة بورقيبة بكثير، ولكن قُبلة الضيف التونسي الكبير لابنته الفلسطينية اللاجئة، صنعت تخيلات لا حصر لها في عقول الطلبة، تجاه محبوبتهم الجميلة.
وأصبح عدد لا يحصى من الطلبة الذين تصل شكاوي عنهم لمدير مدرسة الذكور، بأنهم تعرضوا لمنى بكلمة (أبو رقيبة)، يُجمعون صباحاً، كقطيع بائس حزين أمام غرفة المدير، الذي ما أن ينهي إشرافه على طوابير الطلبة وهم يدخلون صفوفهم، يعود متحمسا يحمل المؤشر الخشبي الطويل، وبكل بأس يضرب كل طالب على يده المبسوطة، ثم يكمل الضرب على اليد الأخرى. وشاعت أقاويل عن عدد العصيّ الكثيرة التي كُسرت على مذبح فتنة الطلاب بمنى. وفي مراتٍ نادرة كان يحاول المشتكى بحقه أن يدافع عن نفسه معترفاً بأنه ذكر اسم بورقيبة، متسائلاً: وما هو العيب في ذكر هذا الاسم؟ وهل سينال عقاباً لأنه ذكر اسم رئيس دولة عربية شقيقة؟ وكان طارح هذه الأسئلة يُوصف بالمتواقح مِن قبل المدير صاحب الشخصية القوية، غير المتهاون، والذي يرفض التراخي أمام طلابه فيزيد وجبة الضرب للمتواقحين، ولكنّ العقاب لم يأتِ بنتيجة في معظم المرات، وفي اليوم التالي  يكون المدير على موعدٍ مع قائمة جديدة بأسماء الطلبة الذين يلاحقون مُنى، تُرسلها مديرة مدرسة الإناث التي يفصلها سور عن مدرسة الذكور، مع الآذنة( المراسلة).


ولم تزد كل الجلبة غير المتوقعة، التي أحدثتها قبلة بورقيبة البريئة، مُنى، إلا استمراء خيلاء مشيتها المتمايلة، وتقصير تنورتها بضعة سنتيمترات كما لاحظ الشبان، فجن جنونهم.
بعد زيارته للمخيم، وصل بورقيبة مدينة أريحا في طريقه لمغادرة الضفة الغربية، وفي 3/آذار 1965 ألقى خطاباً في أخفض منطقة على وجه الأرض، فأخفضه تحت الأرض بالنسبة للرأي العام العربي، وقوبل بعواصفٍ مِن الاحتجاجات الحادة. بسبب ما أُعتبر حينها تنازلاً في الصراع العربي-الإسرائيلي، ومن حسن الأقدار، أو سوئها أن بورقيبة لم يعش بوعيه، ليرى أن ما كان يقوله حينها هو شديد الثورية، مقارنة بماحدث لاحقاً.
كان السلطان إبراهيم يكاد يحفظ خطاب بورقيبة الذي ألقاه في أريحا عنّ ظهر قلب، وعند زيارة بورقيبة التي توصف بالتاريخية، مثل معظم الاحداث في حياة اللاجئين، كان هذا الرجل الضئيل الجسم، النحيل، سلطاناً يرتدي زياً من الكاكي، لا يعرف أحداٌ من أين حصل عليه، ويضع رتباً عسكرية من أغطية زجاجات البيرة، ويسير في مشية عسكرية متأبطاً عصا المارشالية. جعلت الناس يسمونه مجنوناً، وفقا لمثل يتداولونه: "عصا المجنون خشبة..!". وكأن عصيّ العاقلين من البرونز أو الذهب.
ولم يحل وصف السلطان إبراهيم بالمجنون مِن قبل الناس، عن استقباله في مجالسهم، واستماعهم إلى أحاديثه الفصيحة، فهو دودة كتب يقرأ في كل شيء، ويحلو له استعراض معارفه الشعرية، والمعلوماتية أمام الناس في قعداتهم أمام البيوت، أو في المقاهي.
ولدى الإتيان على سيرة بورقيبة يهب السلطان إبراهيم واقفاً، مُتخذا وضعية بورقيبة لدى إلقائه خطابه الريحاوي، رافعاً رأسه إلى الأعلى، ويبدي بطريقة تبدو ساخرة لا تخلو مِن تهكم تأثره: "للحياة الأليمة التي يعيشها اللاجئون والتي تبرز آثار النكبة التي مُنينا بها قبل سبع عشرة سنة، كما أني معتز شديد الاعتزاز ومتفائل خيراً بحماسكم الفياض وإرادتكم الفولاذية المتجهة إلى استرجاع الحق غير منقوص".
يعتدل السلطان إبراهيم، وهو يعلم أن ما قاله ليس هو ما أثار الرأي العام العربي آنذاك، وسط ترقب الجالسين ليهزوا برؤوسهم أسى وسخرية: "أود أن ألفت انتباهكم إلى أن العاطفة المشبوبة والمشاعر المتقدة لا تكفي وحدها للانتصار على الاستعمار، وإن كان هذا الحماس ضرورة مِن ضرورات الكفاح لدفعه والإبقاء على جذوته، فإن التضحية والاستشهاد هما ما يضمنان النتيجة المرجوة والفوز العظيم".
ويمضى السلطان بجدية أكبر متقمصاً شخصية بورقيبة في حديث يراه هاماً غير إنشائي، يؤكد فيه أنّه يجب أن يكون أصحاب القضية هم طليعة المقاومة، ولابد مِن: "قيادة حكيمة تجتمع فيها خصال جمة، مِن فكر ثاقب وتخطيط بعيد المدى وتبصّر بالأحداث وفراسة لنفسية العدو، ومراعاة لتفاوت القوى بيننا وبين الخصم واعتباراً لإمكانياتنا الحقيقية، مع ضبطها وتقديرها بأكثر ما يمكن مِن التحري والموضوعية حتى لا يؤول بنا الأمر إلى مغامرة ثانية، تكون نكبة أخرى تعود بنا أشواطاً إلى الوراء".
ويصمت السلطان لحيظات، مُوّمِئا لما حدث بعد عامين فقط من خطاب بورقيبة، في ما يسمى في الأدبيات السياسية العربية النكسة، أو حرب الأيام الستة في الأدبيات الإسرائيلية، أو حرب الساعات الست بلغة أهل مخيمنا، ثم يستجمع قواه ليواصل متحمساً: "إن نجاحنا في المعركة يتوقف على مقدار كبير من الصبر، وتهيئة الخطط وتوفير الأسباب سواء  بما يتعلق بإعداد المكافحين وتزويدهم بالأسلحة أو في كسب الحلفاء والأنصار، فلا نتسرع قبل أن نضمن النصر لقضيتنا. العمل الإيجابي الذي شرعنا به يستدعي قدراً عظيما من الصدق والإخلاص والجد والشجاعة، ذلك أنه مِن السهل الاندفاع في المزايدات الكلامية، واتخاذ المواقف الحساسة، أما الأمر العسير المهم فهو الصدق والإخلاص ودخول البيوت من أبوابها، فإذا اتضح أننا لا نستطيع قهر العدو والإلقاء به في البحر، وجب أن ننتهج إلى جانب الكفاح المسلح طرقاً أخرى تعتمد الحكمة والدهاء بما في ذلك من كر وفر وترهيب وترغيب".
يبلع السلطان إبراهيم ريقه، وفي أغلب المرات يتناول جرعات من الماء، قبل أن يتابع بسرعة وحسم: "المطالبة بالكل أو لا شيء، قادتنا إلى المأزق الذي نحن فيه، وجلبت لنا الهزائم التي ما زلنا نجر ذيولها حتى اليوم".
ويخاطب السلطان إبراهيم جلسائه عن التجربة التونسية بلسان بورقبة: "تجزئة كفاحنا إلى مراحل سهلت على فرنسا نفسها التنازل، وجعلتها ترضى بقبول إجتياز مرحلة محدودة في كل مرة باعتبارها أخف الضررين بالنسبة إليها، وظناً منها أنها قد تضمن بذلك البقية الباقية من نفوذها وسيطرتها الاستعمارية، بيد أننا كلما خطونا خطوة قطعنا شوطاً جديداً نحو الهدف الأبعد، فازدادت فرنسا ضعفاً وازددنا قوة مكنتنا من عوامل جديدة للضغط عليها بالشغب وعصابات المقاومة، إلى أن كانت آخر مرحلة عندما خاض شعب تونس معركة بنزرت فحقق الجلاء التام".
ووصل بورقيبة إلى ذروة "الاستفزاز" بلسان السلطان إبراهيم، عندما تحدث عن قرار التقسيم قائلا بتهكم على الأرجح: "اننا لو رفضنا الحلول المنقوصة مثلما رفض العرب الكتاب الأبيض والتقسيم, وقد ندموا على ذلك في ما بعد، لظلت تونس إلى هذا اليوم منكوبة بالاستعمار".
وبنبرة عاطفية واصل السلطان إبراهيم: "تلك هي وصيتي أوصيكم بها، وطريقتي أعرضها عليكم في هذه الزيارة التي لا أعلم هل ستمتد بي الحياة حتى تتاح مرة أخرى، ولعلكم تذكرونها وتذكرون الحبيب بورقيبة".
وبحزم ورجاء: "إني أناشدكم الأخذ بها للوصول إلى الهدف حتى لا نظل بعد سبعة عشر عاما أخرى أو عشرين أو مائة سنة، نردد بلا جدوى أغاني العودة والوطن السليب، ذلك أن كفاحنا إن يقتصر على العاطفة الملتهبة فسوف نبقى على هذه الحال قروناً، ومهما يكن من أمر فلا بد أن يبرز في صفوف العرب رجال لهم من الشجاعة ما يكفي لمصارحة الشعب، ومواصلة الكفاح بجميع متعرجاته وفي كل أطواره ومراحله بما يقتضيه من دماء وكر وفر، حتى نضمن لأنفسنا وللأجيال التي ستأتي من بعدنا النصر الكامل واسترجاع الحق السليب".
يتجلى السلطان إبراهيم، وهو يدعو الحكام العرب الذي لا يخفي كرهه لهم، بلسان بورقيبة: "بالانسجام والتخلص من كل المركبات سواء كانت مركبات نقص يشعرون بها أمام قوة العدو، أو مركبات غرور وتهور وارتماء على الهزيمة المؤكدة دون تقدير للعواقب".
وبعد خطاب بورقيبة هذا الذي يستعيده السلطان إبراهيم، ويبهر جلسائه بقوة ذاكرته، هاج وماج الرأي العام العربي وأحزابه وقواه الوطنية، وحدث أن مخيم الدهيشة الذي كان استقبل بورقيبة بالهتاف والتظاهرات الاحتفالية، إنقلب حاله بعد خطاب أريحا، التي تذكر الناس انها المدينة المسخوطة..الملعونة، التي زادها بورقيبة لعنة، وخرجت المظاهرات المنددة والمطالبة باستمرار الكفاح والنضال، ورفض أيّة حلول غير العودة وتدمير إسرائيل، ووضع حسونة صورة كبيرة لبورقيبة كانت مِن الصور التي رفعها ناس المخيم، عندما زارهم مَن وصفوه بالمجاهد الأكبر، على مؤخرة حمار وداروا به منددين بالتخاذل أمام العدو، وأسمعوا بورقيبة كلاماً قاسياً جدا. وهذه المرة، عادت السلطات إلى أسلوبها، فقمعت المتظاهرين.
عندما يكون أبو عزمي حاضراً يقول في ختام العرض البورقيبي الذي يقدمه السلطان إبراهيم:
-أبو رقيبة كان على حق. كان يجب أن نتبع سياسة "خذ وطالب"، وأن نعتذر له عن صورة الحمار تلك.
فيرد عليه السلطان بلهجة مختلفة:
-عن ماذا نعتذر هل لأننا كنا نطالب بحيفا ويافا؟ إننا ما زلنا نطالب بذلك رضي الحكام بذلك أم أبوا.
ويكون ذلك بداية لنقاش يستعر بين الجلساء، رغم أن لكل منهم رأياً قد يتغير في المرة المقبلة أو في الجلسة نفسها، وفي كل مرة يتناوب الجالسون على تبني طرح بورقيبة أو معارضته، وكأن ذلك يتم ضمن اتفاق غر معلن بينهم، يوضح حيرتهم، وعجزهم، فيقول أحدهم:
-لو استمعنا لأبي رقيبة وصالحنا اليهود..!، كلنا كنا نعرف بأن العرب سيتخلون عنا، ويبيعوننا. ليس مثل أبو رقيبة مَن عرف الحكام العرب.
فيتنطح أخر:
_حتى لو صالحنا فلن يصالح اليهود.
وفي وقت آخر قد لا يفصل بين الوقتين سوى صلاة الظهر أو العصر، ينسى المؤيد لبورقيبة انه أيد، وينسى المعارض أنه عارض، ويزجي الجلساء وقتهم في نقاش لا ينتهي. ولم يستطع أحدٌ أنّ يعرف إذا كان السلطان إبراهيم محبا لبورقيبة أو باغضاً له، وفي كل الأحوال ظل تقمص الأول لشخصية الثاني أمراً مثيراً لفضول ناس المخيم. وشاع، بدون دليل بعد سنوات من زيارة بورقيبة، ومغادرة مُنى المفتي المخيم متزوجة من رجل ايطالي، تعرف عليها خلال زيار ة له للمخيم ليعاين معيشة اللاجئين، أن حُب السلطان من طرف واحد لمنى كان سبباً في جنونه. لكن كثيرين يعرفون بُطلان هذه الشائعة، وصمت الجميع رغبة منهم بإضفاء أبعاد أخرى على شخصية السلطان.
في وقتٍ ما تغير السلطان إبراهيم، وأصبح كل شيء يتغير حوله بطريقة عجيبة. تزوج فجأة بعد أن اعتقد الناس أن هذا المجنون، الذي حلت فيه روح بورقيبة لن يتزوج أبداً، وتدهورت صحته، وأصبح لا يخرج كثيراً من البيت، وإن خرج، فيظهر في الشوارع مُقوس الظهر، لكنّه لم يتخل عنّ روحه المرحة، وفاجأ القدر هذا السلطان غير المتوج بأولاد يكبرون بسرعة، ويهرمون بسرعة، ويموتون بسرعة، وتخلى السلطان، عن أخر شيء ينسبه إلى سلطنته، وهي أغطية الزجاجات، واحتفظ بزيه الكاكي، وعلّم أولاده، ما لا يخطر على بال، وهو فنون السرقة، وكثيراً ما كان يسمع الجيران صراخه على ولد منهم عاد دون أن ينفذ المهمة التي أوكلها له، وتكون عادة سرقة دجاجة أو أرنب، أو شيئا مشابهاً، وتقبل الناس الأمر من السلطان مُبتسمين فرحين.
وابتكر السلطان الذي طالما تحدث عنّ ابتكاراته، لغة للتخاطب بينه وبين أولاده الكثر، وكان يتباهى كذباً، أنه لا يعرف عددهم أو أسماءهم، وأثارت هذه اللغة دهشة الناس وضحكهم.
وعاش السلطان ليرى بأنّ صاحبه بورقيبة، لم يختلف عن باقي الزعماء العرب الذين عَرّضَ بهم، ومَنى نفسه بأنّ يصبح رئيساً لبلاده إلى أبد الآبدين، وعندما غادر المقاتلون الفلسطينيون بيروت في عام 1982، كان بورقيبة في إستقبال أول دفعة وصلت منهم، وعندما نزلوا كان يرفع يده مُحييا على الطريقة الهتلرية، لكن لضعفه بسبب عامل السن، كان يحتاج إلى من يرفعها له، ورغم أن مشهدا كهذا من أي حاكم عربي، كان يمكن أن يشكل مادة سخرية دسمة بالنسبة للسلطان إبراهيم، إلا أنّه وجد عذراً لصاحبه القديم، واعتبر استقبال بورقيبة للمقاتلين الفلسطينيين بعد أن وهن وشاخ، بأنه تعبير عن وفائه تجاه قضيتهم، بعد أن تخلى عنهم باقي الحكام في حصارهم المرير، فخرج يستقبلهم مُتحاملا على نفسه.
وظل السلطان يزجر بعض الشبان الذين يعرفون علاقته الوطيدة بالزعيم التونسي، عندما يعلقون مستفزينه بأنه تم جلب مومياء بورقيبة من المتحف المحنطة به ليشارك في الاستقبال، بعد حقنها بموادٍ مقوية، فنسي بورقيبة،عندما أفاق مَنّ هو واعتقد بأنه هتلر، فطلب مُساعدا يرفع له يده.
ويضطر السلطان للضحك عندما يقول أحدهم:
-تصوروا لوّ أنّ المساعد غفل أو تعب، فترك يد بورقيبة تتأرجح في الهواء.
وامتد العمر في السلطان ليرى ما حدث لصاحبه، وعندما كان جالساً في احد مقاهي المخيم في إحدى مرات خروجه النادرة من بيته، مرّ بجانيه بائع صحف، ووضع صحيفة أمامه، دون أن ينتظر، فهو يعرف بأنّ السلطان ليس معه ما ينقده ثمنها.
رأى السلطان على الصفحة الأولى صورة صاحب دكان متواضع في تونس يرفع صورة بورقيبة، المعلقة على الجدار، ويضع مكانها صورة رئيس جديد اسمه زين العابدين بن علي، فاستجمع السلطان ما بقي من قواه الواهية، ووقف مُستعيدا وقفاته الخطابية وهتف: "مات الملك، عاش الملك، ملوكنا آلهة من تمر نأكلها، ليس عندما نجوع، ولكن عندما يتدخل جبرائيل، أو عسكري مغامر، طموح، يرغب بوضع اسمه في سجل الآلهة الملوك".
ووسط استغراب الحضور مما بات يُعرف لاحقا، في حكايات مخيمنا صحوة موت السلطان الأخيرة، سقط السلطان إبراهيم على الأرض، وبعد ساعات كان الناس يحملونه سائرين في شارع القدس-الخليل، وهذه المرة ليس كشخص يهتف بحياة الزائر بورقيبة، بل كجثة يسرعون بها إلى مقبرة قبة راحيل.

ولأن الحكايات لا تكتمل إلا إذا أُضيفت إليها أبعاد أسطورية، فقد أصبح راسخاً في حكاية مجنون بورقيبة، أنّه وهو يودع الدنيا خطيباً، كانت هناك على الجانب الأخر من البحر الذي سماه العرب يوماً بحر الروم، امرأة ما زالت في أذهان ناس المخيم شابة سمراء جمالها لا يشيخ، لن ينسوا اسمها أبدا: منى المفتي، تودع هي الأخرى الدنيا، ولكنها دنيا غير دنيا المخيم وناسه، رغم أن ما يفصل بين الدنيَيَيْن بحر لعله وجِدَ منذ الأزل، فقط ليفصل بين عالمين يبدو انه لن يُقدر لهما أن يلتقيا.

باسمك يا رب أحمي تونس



الأربعاء، أبريل 07، 2010

هكذا كان أبوك


أيها الرجل أيتها المرأة هكذا كان أبوك

في صغرك تلبس حذائه فتتعثر من حجمه الكبر وصغر قدمك وتلبس نظاراته فتشعر بالعظمة وتلبس قميصه فتشعر بالوقار والهيبة ويخطر ببالك شيئ تافه فتطلبه منه فيتقبل منك ذلك بكل سرور ويحضره إليك دون منة ويعود إلى المنزل فيضمك إلى صدره ضاحكا وأنت ﻻتدري كيف قضى يومه وكم عانى في ذلك اليوم في عمله .

واليوم في كبرك 

انت ﻻتلبس حذاءأبيك فذوقه قديم وهو ﻻيعجبك وتحتقر ملابسه العتيقة وأغراضه القديمة ﻷنها ﻻتروق لك وأصبح كلامه وسؤاله عنك هو تدخل في شؤونك وذلك ﻻيروق لك 
وحركاته تصيبك بالحرج وكلامه يشعرك بالإشمئزاز وإذا تأخرت وقلق عليك وعاتبك على التأخير حين عودتك تشعر أنه يضايقك وتتمنى لو لم يكن موجودا لتكون أكثر حرية  رغم أنه يريد اﻷطمئنان عليك ليس إﻻ وترفع صوتك عليه وتضايقه بردودك وكلامك فيسكت ليس خوفا منك ، بل حبا فيك وتسامحا معك وإن مشى بقربك محدودب الظهر ﻻتمسك يده فلقد أصبحت أنت اطول منه وأنت باﻷمس تتلعثم بكلامك وتخطئ في الحروف فيضحك مبتسما ويتقبل ذلك برحابة صدر  وأنت اليوم تتضايق من كثر تساؤﻻته وإستفساراته بعد أن أصابه الصم أو ضعف نظره  لكبر سنه لم يتمنى أبوك لك الموت أبدا ﻻفي صغرك وﻻ في كبرك وانت تتمنى له الموت فلقد ضايقك في شيخوخته وقد يضايق من معك ايضا.تحملك أبوك في طفولتك في جهلك  في كبرك في دراستك في عوزك في فاقتك في شدتك في رخاءك تحملك في كل شئ .

فهل فكرت يوما أن تتحمله في شيخوخته ومرضه ؟

الإبن والبنت البارين بأبوهما لا يسألا هذا السؤال